الخوف كسلاح سياسي.. كيف حولت إدارة ترامب احتجاز المهاجرين إلى أداة ردع؟
الخوف كسلاح سياسي.. كيف حولت إدارة ترامب احتجاز المهاجرين إلى أداة ردع؟
منذ يوليو الماضي، بدأت سياسات الهجرة الأمريكية تأخذ منحى جديدًا يتجاوز كل ما عُرف في العقود الأخيرة، وتنقل التقارير الإعلامية مشاهد صادمة لرجال ونساء عاشوا سنوات طويلة في الولايات المتحدة، يعملون، يربّون أطفالًا يحملون الجنسية الأمريكية، ويعيشون حياة يومية عادية، لكنهم وجدوا أنفسهم فجأة خلف القضبان.
وفقاً لتقرير نشرته "أسوشيتد برس"، عاش رجل مكسيكي في بالتيمور، أكثر من ثلاثين عامًا في البلاد دون أي سجل جنائي، وله ابن يخدم في سلاح الجو الأمريكي، أُلقي القبض عليه أثناء ذهابه للعمل، وامرأة سلفادورية وصلت قاصراً عام 2016، وأصبحت أمًا لطفلين أمريكيين، اعتُقلت رغم أنها كانت ترعى طفلًا رضيعًا، ورجل برازيلي في ماساتشوستس، رزق بطفله الأول قبل أسبوع، لم يُستثن هو الآخر من الاعتقال.
هذه القصص ليست حالات فردية، بل نماذج متكررة لسياسة تهدف –وفق منظمات حقوقية– إلى "إرهاق المهاجرين نفسيًا واجتماعيًا"، ودفعهم إلى التنازل عن حقوقهم القانونية والقبول بالترحيل الطوعي، فالاحتجاز هنا ليس مجرد تطبيق للقانون، بل سلاح يستخدم لتقويض الأمل.
إعادة تفسير القانون
جاء التحول الكبير مع قرار إدارة ترامب، في 8 يوليو، بإعادة تفسير بندين رئيسيين من قانون الهجرة، وكما أوضحت صحيفة "بوليتيكو، التفسير الجديد اعتبر أي شخص يقيم في الولايات المتحدة دون أوراق قانونية "متقدمًا للقبول"، وبالتالي فهو خاضع للاحتجاز الإلزامي، حتى وإن كان يعيش في البلاد منذ عقود.
هذا التفسير أغلق الباب أمام إمكانية الكفالة، وحوّل آلاف المهاجرين إلى محتجزين دائمين بانتظار قرارات قضائية قد تستغرق أشهراً أو سنوات، ودخلت المحاكم الفيدرالية سريعًا على الخط، وأصدرت عشرات الأحكام التي وصفت السياسة بأنها "تحريف صارخ للقانون" و"انتهاك مباشر لحقوق الإجراءات القانونية الواجبة".
كتب أحد القضاة في حكمه أن الإدارة "تحاول إعادة كتابة القانون عبر اللوائح التنفيذية"، في حين أكد آخر أن ما يجري هو "لعبة احتجاز لا تُطاق"، تهدف إلى استخدام الخوف بدل العدالة.
ولا يعد الجدل القانوني هنا تفصيلاً إجرائيًا، بل معركة دستورية تمس مبدأ أساسيًا: هل يمكن للسلطة التنفيذية أن تعيد صياغة القانون بما يخالف النصوص الواضحة؟
الاحتجاز سلاح ردع
من زاوية أخرى، تكشف "الغارديان" أن هذه السياسة تمثل ركيزة أساسية في استراتيجية الترحيل الجماعي التي تتبناها إدارة ترامب، والمنطق بسيط: إذا علم المهاجرون أن احتمال الاحتجاز مرتفع، فسوف يتراجعون عن محاولات دخول الولايات المتحدة، بل وربما يغادر المقيمون غير النظاميين طواعية.
لخص مارك كريكوريان، أحد أبرز حلفاء الإدارة، هذا المنطق قائلاً: "إذا كنت ستُحتجز ثم تُرسل إلى وطنك، فلماذا كل هذا العناء؟"، لكن هذا الحساب السياسي يتجاهل التكلفة الإنسانية: أطفال أمريكيون يفقدون آباءهم فجأة، أمهات مرضعات يُحتجزن رغم وجود سياسات سابقة تمنع ذلك، وشباب مجندون في الجيش يعيشون صدمة رؤية آبائهم يُساقون إلى السجون.
يتجاوز الردع هنا القانون إلى محاولة صناعة مناخ خوف دائم، حيث يصبح كل مهاجر بلا أوراق عرضة للاعتقال في أي لحظة، بصرف النظر عن ماضيه أو اندماجه في المجتمع.
مواجهة بين القضاء والإدارة
لم تتوقف معركة المحاكم عند تفسير القانون، حيث لجأت إدارة ترامب إلى استخدام ما يُعرف بـ"الوقف التلقائي"، وهي لائحة قديمة تسمح بتعليق قرارات الإفراج الصادرة عن قضاة الهجرة لمدة 90 يومًا قابلة للتمديد.
وكما أوضحت "بوليتيكو"، تحولت هذه الآلية إلى أداة روتينية لإبقاء المهاجرين رهن الاحتجاز، حتى بعد أن يحصلوا على قرارات قضائية لصالحهم.
وصف قضاة فيدراليون الأمر بأنه "تشويه عنيف للإجراءات القانونية"، معتبرين أن الحكومة أصبحت في الوقت نفسه المدعي والقاضي والجلاد.
يضاعف هذا الاستخدام المفرط للوقف التلقائي المعاناة: المحتجزون يُحرمون من الحرية رغم كسبهم دعاوى قانونية، وعائلاتهم تعيش على وقع الغياب والقلق، في حين أن النظام القضائي يتعرض لضغط متواصل يهدد نزاهته.
تضييق على المحامين والحقوقيين
لم يتوقف الأمر عند استهداف المهاجرين فقط، وفق "الغارديان"، اتسعت دائرة الضغط لتشمل محامي الهجرة والمنظمات الحقوقية التي تقدم لهم الدعم القانوني، هذا التضييق يهدد الحق في الدفاع القانوني، أحد أهم ركائز العدالة، ويفتح الباب أمام إدارة تفرض رؤيتها دون معارضة مؤسسية فعّالة.
تحذر المنظمات الحقوقية من أن تقييد قدرتها على الوصول إلى المحتجزين أو متابعة قضاياهم يعني عمليًا حرمان آلاف المهاجرين من فرصة الدفاع عن أنفسهم، ما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان.
تتجه الأنظار الآن إلى جلسة 17 أكتوبر في كاليفورنيا، حيث تنظر محكمة في دعوى جماعية قد توقف هذه السياسة، قد يحدد القرار المرتقب مصير آلاف المحتجزين، ويفتح الباب إما لتخفيف معاناتهم أو لترسيخ سياسة الاحتجاز الجماعي أمراً واقعاً.
إلى ذلك الحين، يبقى المهاجرون وعائلاتهم في مواجهة يومية مع الخوف والانتظار: خوف من الاعتقال المفاجئ، وانتظار طويل لقرارات قضائية قد تُعيد إليهم بعض الأمل، أما المشهد العام، فيكشف عن دولة تتأرجح بين القانون والسياسة، بين الردع والحقوق، وبين خطاب الأمن وواقع الإنسانية.
ما وراء الأرقام
من خلال متابعة ما نشرته بوليتيكو والغارديان وأسوشيتد برس، يظهر أن سياسة الاحتجاز الجماعي ليست مجرد بند إداري أو جدل قانوني، بل قصة إنسانية كبرى، هي قصة عائلات تمزقت، وأطفال تُركوا بلا والدين، ومحامين مُنعوا من أداء واجبهم، ومحاكم باتت في مواجهة مباشرة مع السلطة التنفيذية.
ويبقى السؤال الحقوقي الأوسع: هل يمكن لدولة بُنيت على فكرة "الملاذ الآمن" أن تتحول إلى فضاء احتجاز شامل؟ وهل يُمكن أن يصبح الخوف من السجن أداة سياسة عامة، دون أن تفقد العدالة معناها؟